الحمد لله الذي ميَّز الإنسانَ بنعمة العَقْل، والصلاة والسلام على سيد الرُّسل، وعلى آله وأصحابه الكُلّ، وبعد:
فقد جرت العادةُ أن يعرفَ أولو الفضلِ فضلَ أولي الفضل [1]، وأن يشهدوا بذلك في إنصافٍ عَزَّ في هذا الزمان، الذي كثُر فيه أن يُعجَبَ كلُّ ذي رأيٍ برأيِه، ويَغرَقَ في عشقِ نفسِه، إلا من رحم ربُّك، والهالكُ من قال: هلَكَ الناسُ.
ومما حوَتْهُ كتب الرجالِ التي صنَّفها علماءُ الأمة وحفَّاظها شهادةُ بعضِ الأعلام لبعضٍ آخرَ بالعقل، ومن ذلك قولُ القائل: ما رأيتُ أعقلَ من فلان.
ولقد تحرَّيتُ جمعَ هذا المقدار اليسير مما رُويَ من هذه المقولة، سائلًا الله- تعالى- لي وللمسلمين الفلاحَ بسلوك سبيل التتلمُذ في مدرسة الأدب والإنصاف.
أخرج الخطيب البغداديُّ في تاريخ بغداد بإسناده إلى علي بن عثمان وجعفر الوراق، قالا: سمعنا أبا عبيد يقول: ما رأيت أعقلَ من الشافعي [2].
وأخرج أيضًا بإسناده إلى الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول: ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن [3].
وأخرج كذلك بإسناده إلى الحسن بن محمد بن الصباح، يقول: قال لي الشافعي: ما رأيت أعقل من رجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي [4].
وأخرج بإسناده إلى عمرو بن عباس الأزدي قال: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: ما رأيت أعقل من مالك بن أنس، ولا أشدَّ تقشفًا من شعبة، ولا أنصحَ للأمة من عبدالله بن المبارك [5].
وأخرج بإسناده إلى أبي عبيد محمد بن علي الآجري، قال: سمعت أبا داود يقول: بلغني عن أحمد- يعني: ابن حنبل- قال: ما رأيت أعقل من معاذ، قال: أبو عبيد- يعني: ابن معاذ- كأنه صخرة [6].
وأخرج بإسناده إلى عبدالله- يعني: ابن أحمد بن حنبل- يقول: سمعت أبي يقول: ما رأيتُ أفضلَ من حُسين الجعفي، وسعيد بن عامر، وما رأيت أحدًا أعقلَ من معاذ بن معاذ العنبري [7].
وأخرج ابنُ عساكر في تاريخ مدينة دمشق بإسناده إلى يونس بن عبدالأعلى، قال: ما رأيت أحدًا أعقل من الشافعي؛ لو جُمعت أمةٌ، فجُعلت في عقل الشافعي، لَوَسِعَهُم عقلُه.
قال: وقال لنا يونس: ناظرتُ الشافعيَّ يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولَقِيَني، فأخذ بيدي ثم قال لي: يا أبا موسى، لا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة. [8]
وأخرج ابنُ عساكر أيضًا: أنه ذكر يحيى بنُ سعيد القطان الشافعيَّ فقال: ما رأيت أعقلَ- أو أفقَهَ- منه [9].
وأخرج كذلك بإسناده إلى الربيع بن سليمان، قال: وقف بعض الصالحين على باب محمد بن إدريس الشافعي فقال: يا ربَّ الدار، تصدَّقْ علينا بما لا يُتعب ضرسًا، ولا يُؤلم نفسًا.
فأمر محمدٌ فأخرج إليه طعامًا.
ثم قال: حاجتي إلى كلامِك أشدُّ من حاجتي إلى طعامِك؛ إني طالبُ هدى، لا طالبُ ندى.
فأمر محمدٌ بإدخاله، فسأله عن مسألة من المسائل، فأجابه وأفاده، فخرج وهو يقول: علم أوضح نفسًا خيرٌ من مال أغنى نفسًا.
فقال لنا الشافعي: ما رأيت أعقل من هذا الرجل- بارك الله فيه [10].
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال ابن الطباع: ما رأيت أعقل من حَمَّاد بن زيد [11].
وذكر عن نعيم بن حَمَّاد قال: ما رأيت أعقلَ من ابنِ المبارك، ولا أكثَرَ اجتهادًا منه [12].
هذا غيضٌ من فَيض، والزهرة تُنبئ عن رَوض، وإنصاف السلف الصالح- رضوان الله عليهم- أعظم من أن تحتويَهُ بعض سطور.
اللهم انفعنا بما نقول ونسمع، وبما نقرأ ونكتب، والله أعلى وأعلم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جاء في ذلك حديثٌ واهٍ لا يُفرَحُ به، ولا يُعمَلُ به في فضائل الأعمال؛ لشدة ضعفه.
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب برقم (1164) عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد- وقد أطاف به أصحابُه- إذ أقبل علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فوقف، فسلم ثم نظر مجلسًا يشبهه، فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في وجوه أصحابه: أيهم يوسع له؟ وكان أبو بكر- رضي الله عنه- جالسًا عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتزحزح له عن مجلسه وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فجلس بين النبي- صلى الله عليه وسلم- وبين أبي بكر- رضي الله عنه- قال أنس- رضي الله عنه-: فرأيت السرورَ في وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم أقبل على أبي بكر- رضي الله عنه- فقال: «يا أبا بكر، إنما يعرف الفضلَ لأهل الفضلِ ذوو الفضل».
وأخرجه بنحوه الخطيبُ في تاريخ بغداد، 4/ 176- 177، و8/ 139- 140.
وأخرجه كذلك ابنُ عساكر بأسانيدَ في تاريخ مدينة دمشق،، 42/ 364- 366.
ومدارُهُ على محمد بن زكريا الغلابي، وقد ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال برقم (7543)، وقال: وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: يعتبر بحديثه إذا روى عن ثقة.
وقال ابن منده: تُكُلِّمَ فيه، وقال الدارقطني: يضع الحديث.
ثم روى له الذهبي حديثًا أعقبه بقوله: فهذا كذب من الغلابي... اهـ.
ناهيكَ عن متروكينَ ومتهمين بالكذب آخرين في أسانيدِه المختلفة.
وأخرج ابن عساكر نحوه 26/ 334 عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- جالسًا مع أصحابه- وبجنبه أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- فأقبل العباس- زاد أبو نعيم: عمُّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم- فأوسع له أبو بكر- رضي الله عنه- فجلس بين النبي- صلى الله عليه وسلم- وبين أبي بكر- رضي الله عنه- فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر- رضي الله عنه-: «إنما يعرف الفضلَ لأهلِ الفضل أهلُ- وقال أبو نعيم: «ذوو» - الفضل...» الحديث.
وفيه الفيض بن وثيق، ترجم له الذهبي في الميزان برقم (6793) بهذه السطور: الفيض بن وثيق عن أبي عوانة وغيره، قال ابن معين: كذاب خبيث، قلت: قد روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم، وهو مقارب الحال- إن شاء الله. ا. هـ.
يرويه الفيضُ عن زكريا بن منظور، ترجم له الذهبي في الميزان برقم (2889) بقوله: زكريا بن منظور عن عقبة بن ثعلبة القرظي، عن هشام بن عروة وغيره، ضعَّفه جماعة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك، وسيعاد فإن منظورًا جدُّه. اهـ.
[2] تاريخ بغداد، 2/ 407.
[3] تاريخ بغداد، 5/ 566.
[4] تاريخ بغداد، 10/ 42.
[5] تاريخ بغداد، 10/ 362.
[6] تاريخ بغداد، 15/ 168، والمعنيُّ هو معاذ بن معاذ أبو المثنى العنبري البصري، كما بينت الرواية التالية.
[7] تاريخ بغداد، 15/ 169.
[8] تاريخ مدينة دمشق، 51/ 302.
[9] تاريخ مدينة دمشق، 51/ 324- 325.
[10] تاريخ مدينة دمشق، 51/ 390.
[11] سير أعلام النبلاء، 7/ 460.
[12] سير أعلام النبلاء، 8/ 405.
الكاتب: علي محمد زينو.
المصدر: موقع الألوكة.